اي تشريع لا يستقر في وجدان
أفراد المجتمع ويحدث الظلم أكثر ما يشيعه من العدل يكون مصيره التجاهل
والنكران مهما تسلحت قواعده بأشد الجزاءات ومن ثم كان من الواجب مراعاة مدى
اقتناع أفراد المجتمع بهذه القواعد ومدى ملاءمتها لسير حياتهم محققة
لمصالحهم الراجحة موفرة للعدل لهم ورادعة لمن خرق مبدا التعاقد المجتمعي
بالإساءة والاعتداء على الحق العام ، ذلك انه اذا كان الحق للجميع فان
القانون فوق الجميع !
لماذا نغير ونعدل القانون الجنائي ؟
من جهة لكون دستور 2011 يعتبر
ميثاقا للحقوق والحريات الاساسية بامتياز ، اذ نص في تصديره الذي يعتبر جزء
منه على سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها ، على التشريعات الوطنية ،
كما تصدى لجميع أشكال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان ونص على حرية الرأي
والتعبير والمعتقد وحرية الصحافة والحق في الوصول الى المعلومة وتعزيز
استقلال السلطة القضائية ، والتركيز على الديموقراطية التمثيلية و
التشاركية والدفع بعدم دستورية القوانين طبقا للفصل 133 من الدستور اثناء
النظر في قضية ما، اذ بإمكان اي طرف الدفع بأن مقتضى وارد في القانون
الجنائي مثلا سيطبق في النزاع ويمس بالحقوق والحريات ، من جهة اخرى لكون
القانون يساير تطور المجتمع , وما يفرضه المنتظم الدولي خصوصا اذا علمنا ان
التشريع انتقل من القومية الى العالمية ، مثال ذلك ما نصت عليه المادة 294
من المشروع والتي تعتبر الجريمة المنظمة كل تنظيم محدد البنية مؤلف من
ثلاثة أشخاص او اكثر، يكون لكل واحد دور محدد لارتكاب جريمة داخل تراب
المملكة او عبر الحدود الوطنية من اجل الحصول على منفعة مالية، وتعتبر
الجريمة عابرة للحدود الوطنية ويعاقب عليها القانون الجنائي المغربي اذا
ارتكبت في المغرب وتم الأعداد لجزء منها في الخارج او أعدت في المغرب
وارتكبت الجريمة في دولة اخرى او اذا ارتكبت في المغرب وأضرت اثارها بمصالح
دولة اخرى او ارتكبت في دولة اخرى وأضرت بمصالح المملكة المغربية .
وإذا كانت فئة من الحقوقيين
والمجتمع المدني تعتبر مسودة المشروع في قمة الماضوية passéiste والنكوص
ومعدمة للحريات liberticide فان بعضهم والذي تجاوز عددهم تسعة آلاف أنشؤوا
صفحة على الإنترنيت تحت عنوان : القانون الجنائي لن يمر معتبرين بعض
المقتضيات في قمة التناقض مع دستور ثوري ضامن للحقوق والحريات ، ولا تعبر
إطلاقا عن طموح الأفراد علما ان العبارات الغامضة والفضفاضة والمبهمة التي
جاءت بها مثل زعزعة عقيدة مسلم وزعزعة الولاء للدولة ébranler وإزدراء
الأديان والإساءة الى الله هذه الأفعال التي لا تعبرعن ممارسات المواطنين
المغاربة ومن شانها ان تفسرللمس بحرية الرأي والفكر والمعتقد لتكميم
الأفواه والرجوع بالمغاربة الى سنوات التحكم والمساس بالحريات ، كما ان
محاولة التضييق على الممارسات العادية للأفراد وحرية الكتابة وإرسال الصور
وتبادل الآراء ولربما حتى الإبداع الأكاديمي والمعرفي والشعر الغزلي
واللوحات الفنية والصور وأسلوب النقد والابتكار وتعليقات الصحافة وحرية
التعبير والنشر والحق في الولوج الى المعلومة قد تواجه بمقتضيات غامضة
كالايماء والإمعان والإيحاءات تفسر ويتم تأويلها للزج بالأشخاص في غياهب
السجون او اداء غرامات تم الرفع منها في مواد المشروع برمته استهدافا لجيوب
المواطنين .اذ اصبح جلها يتراوح ما بين 2000 الى 20000 درهما مثلا جريمة
الإفطار جهرا في رمضان ارتفعت بشأنها الغرامة من 2000 الى 20000 بعد ان
كانت محددة في القانون الجنائي الحالي ما بين 12 درهم الى 120 درهما علما
ان الدستور المغربي يضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية .
ولعل اهم المقتضيات السلبية
التي اثارت ردود أفعال فئة من الحقوقيين والهيآت المنظمة وأفراد المجتمع
المدني والفنانين والمهتمين تتجلى في الإبقاء على عقوبة الإعدام رغم تخفيض
عدد الجرائم التي تطبق عليها هذه العقوبة من 33 الى 11 مستشهدين بما نص
عليه الفصل 20 من الدستور الذي يضمن الحق في الحياة ، بالاضافة الى مقتضيات
المادة 219 من المشروع والتي تعاقب بالحبس من سنة الى خمس سنوات وغرامة من
20000 الى 200000درهم كل من قام بالإساءة او الاستهزاء او السب او القذف
في حق الله والأنبياء والرسل قولا او بواسطة المطبوعات ووسائل الاتصال
السمعية البصرية والإلكترونية او الرسوم والكاريكاتور او التمثيل والغناء
او الإيماء او أية وسيلة اخرى ، علما ان هاجس المس بالحريات يبدو جليا في
المادة المذكورة اذ يتم استعمال مقتضيات قانونية ظاهرها حماية الديانات
والرسل ولكن قد تشكل هذه المقتضيات آليات قمعية قد تمس بحرية الرأي
والتعبير والإبداع والنقد لان تجريم ازدراء الله والرسل قد يكون سياقه
دوليا لما تتعرض الديانات للسب والازدراء او لما يكون الهاجس استعمال الدين
للتفرقة الطائفية ، اما بالنسبة للمغرب فان تجريم هذه الأفعال والأقوال لا
جدوى منه لان المجتمع المغربي لا يعاني من ردة او تعدد الأديان وانما
شيمته الاعتدال والتشبت بقيم الانفتاح والتسامح والحوار والتفاهم بين
الثقافات والحضارات الانسانية وان الاسلام دين الدولة بدون منازع ولا يطرح
اي إشكال للمغاربة عبر العصور والأجيال والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة
شؤونه الدينية بقوة دستور 2011 ، كما ان الإبقاء على الأعذار المخفضة فيما
اعتبره الحقوقيون جرائم الشرف crimes d’honneur يعتبر نكوصا وتراجعا اذ متع
اي احد من أفراد العائلة بدل رب العائلة في القانون الحالي باعذار مخفضة
لما يرتكب عنفا او جريمة قتل غير عمدي في حالة مفاجأته لأشخاص يمارسون
علاقات جنسية في منزله ، وهو استيراد خاطئ ومتناقض مع حقوق الانسان من
تشريعات دول متخلفة حقوقيا وقانونيا ، وبدل تشديد العقاب لكون الامر يتعلق
بارتكاب جريمة استهدفت حياة الأشخاص تم تمتيع الفاعل بالاعذار المخفضة وفي
ذلك تشجيع سافر لارتكاب تجاوزات وجرائم قتل . في حين ان شرعنة الجريمة
وتبريرها تعد في قمة الاستهتار بحقوق الانسان
من بين سلبيات المشروع العقوبات
السالبة للحرية في الشق المتعلق بالفضاء الرقمي كمساحة للتعبير اذ انها لا
ترقى و لا تواكب ولا تتلاءم مع متطلبات العصر والمجتمع اذ ان العديد منها
يمس المكتسبات في مجال الحريات والتعبير والتضييق على الصحافة وأنشطة
الجمعيات ، كما ان مقتضيات المادة 1-448 جاءت فضفاضة وقد تؤدي الى تأويلات
قد تمس بحرية الرأي لأن التقاط الصور او بث التسجيلات او المعلومات دون
موافقة أصحابها قد تتناقض مع مبدأ حق الوصول الى المعلومة لذلك يتعين تصويب
المادة بما يكفل حماية الحياة الخاصة وفي نفس الوقت ضمان حق المواطنين في
معرفة ما يجري والاطلاع على أقوال وتصريحات القائمين على الشأن العام في
اطار الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة ، وكما ان الإبقاء على مقتضيات
المادة 288 التي تعاقب من يعرقل حرية العمل سنها المستعمر من اجل تخويف
المواطنين المغاربة إبان الاستعمار ، لم يراع تطور الحقوق والحريات ،
الاكثر من ذلك فان المادة 265 من المشروع التي تعاقب على إهانة الهيآت
المنظمة لم تعرف من هي الهيآت المنظمة شانها في ذلك شان المادة الحالية
والتي كانت محل انتقاد من طرف منظمات دولية مثل هيومان رايتس . كما ان
جريمة التحرش الجنسي المنصوص عليها في المادة 503 من المشروع ستواجه حتما
بصعوبة التطبيق ، اذ ان اي نص تشريعي متعذر التطبيق لا جدوى منه اذ كيف
يعقل ان تتمكن المتحرش بها في الطريق العام ان تتقدم بشكوى ضد من تحرش بها ؟
اضافة الى ذلك قد تفتح هذه المادة المجال لتفسيرات وتأويلات مصدرها تصفية
الحسابات خصوصا بالنسبة للزملاء في العمل او بمناسبة إرسال وتبادل الصور او
الإمعان في المضايقة الشيء الذي يتعين معه اجراء تصويبات تجرم التحرش و
تمكن من تطبيق النص وتحمي من الانزلاقات وتصفية الحسابات .
لا احد يجادل في ان للمشروع
إيجابيات ، على رأسها العقوبات البديلة التي ستمكن لا محالة من مواجهة
معضلة اكتظاظ السجون ، كما انها ستساهم في ضخ أموال في خزينة الدولة علما
ان العقوبات البديلة هي التي يحكم بها كبديل للعقوبات السالبة للحرية في
الجنح التي لا تتعدى العقوبة المحكوم بها من اجلها سنتين حبسا ، وتتمثل هذه
العقوبات في العمل لأجل منفعة عامة ، وغرامة يومية تتراوح ما بين 100 درهم
و2000درهما ، وتدابير رقابية او علاجية او تأهيلية ، وان هذه العقوبات
البديلة لا تطبق بالنسبة لجرائم الاختلاس والغدر والرشوة واستغلال النفوذ ،
والاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية ، والاتجار في
الأعضاء البشرية ، والاستغلال الجنسي للقاصرين . من بين المقتضيات
الإيجابية تجريم الزواج القسري بالحبس من شهر الى ستة أشهر وغرامة من 2000
الى 20000 درهم مع مضاعفة العقوبة في حالة كون الضحية قاصر ويعاقب عن
المحاولة كالجريمة التامة ،من المقتضيات الإيجابية عدم قضاء العقوبة في نفس
الوقت بالنسبة للزوجين معا في حالة وجود شخص مريض او معاق ذهنيا او جسديا
او مسن تحت اشرافهما لان النص الحالي لا يشمل هذه الحالة وانما يقتصر على
وجود طفل اقل من 18 سنة تحت كفالتهما . بالاضافة الى الإيجابيات تجدر
الإشارة الى إمكانية تأجيل العقوبة السالبة للحرية في حالة معاناة المحكوم
عليه من مرض خطير مثبت بشواهد طبية تحررها لجنة مكونة من ثلاث أطباء ، كما
ان تجريم الإثراء غير المشروع للموظف العمومي طبقا للمادة 7-256 يعتبر من
إيجابيات المشروع في اطار الشفافية ومحاربة الفساد ذلك ان مقارنة دخل
الموظف بما راكمه من ثروات غير مبررة خلال مدة وظيفته قد تعرضه للمساءلة ان
هو لم يبرر مصدر الاموال المتحصل عليها ، من جهة اخرى فان تجريم الاختفاء
القسري يعتبر من إيجابيات المشروع مقارنة مع ما عاناه المغرب في سنوات
الرصاص ، ذلك ان المادة 9-231 تجرم كل اعتقال او احتجاز او اختطاف او اي
شكل من الأشكال السالبة للحرية يرتكبه الموظفون العموميون أو أشخاص يتصرفون
بموافقة الدولة او بإذنها او بدعم منها ، وفي هذا تناغم مع مقتضيات الفصل
23 من الدستور الذي يعتبر الاعتقال التعسفي او السري والاختفاء القسري من
اخطر الجرائم وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات ، في الباب الثاني المتعلق
بالحريات والحقوق الاساسية . تضاف الى المقتضيات الإيجابية التي تتلاءم مع
مستجدات الاكراهات المجتمعية تجريم وعقاب الغش في الامتحانات والمباريات
على اعتبار ان هذه الظاهرة أصبحت متفشية في المغرب لذلك جرمت المادة 391
الغش في الامتحانات الدراسية والمهنية والمباريات وعاقبت على ارتكابها
بعقوبات قاسية تتراوح بين سنتينالى خمس سنوات حبسا كما تجرم واقعة تسليم او
تسريب مواضيع الامتحان . من بين الإيجابيات المهمة التي تؤرق جفن من ينتظر
تنفيذ الأحكام ما نصت عليه المادة 307 التي تجرم وتعاقب من تسبب بسوء نية
في تأخير مسطرة قضائية نتج عنها الأضرار بمصالح المستفيدين كما يعاقب من
شهر الى ثلاث أشهر وغرامة من 2000 الى 20000 درهم كل من يمتنع بدون سبب
مشروع عن تنفيذ حكم او امر قضائي بعد اعذاره بتنفيذ الحكم داخل ثلاثين يوما
، علما ان هذا المقتضى سيجعل كل مسؤول عن تنفيذ الأحكام مواجه شخصيا
بنتيجة الامتناع عن تنفيذ الأحكام بدون سبب مشروع . ومما لا شك فيه ان
تجريم المادة 444 للقذف والسب العلني للمرأة بسبب جنسها وتحديد العقوبة في
الحبس من شهر الى سنتين والغرامة من 5000 الى 50000 درهما، صيانة لكرامة
المرأة واعتبارها وتماشيا مع روح الدستور الذي يحظر ويكافح كل أشكال
التمييز بسبب الجنس او اللون او المعتقد او الثقافة او الانتماء الاجتماعي
او الجهوي او اللغة او الإعاقة او اي وضع شخصي مهما كان .
وفي اطار ملاءمة التشريعات
الوطنية مع الاتفاقيات الدولية نص المشروع في الباب السابع على جرائم
الإبادة الجماعية والحرب والجرائم ضد الانسانية على غرار ما ينص عليه نظام
روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية هذه المحكمة التي تعتبر قضاء مكملا
للقضاء الوطني ولا تمارس اختصاصها الا اذا لم تمارسه الدولة التي لها
الولاية على الدعوى في حالة عدم الرغبة او عدم القدرة على تطبيق التشريع
الوطني بسبب انهيار نظامها القضائي او اذا كانت المحاكمة صورية او من اجل
التمويه او لم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة وبذلك فان تنصيص المشروع
على ملاحقة مجرمي الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وهي التي
تشكل نطاقا هجوميا واسعا او منهجيا ضد السكان المدنيين وتتجلى في جرائم
القتل العمد والإبادة والاسترقاق والميز العنصري والاغتصاب والاضطهاد
وإلحاق معاناة جسيمة وآلام شديدة ، تجعل الاختصاص ينعقد للتشريع الوطني
المغربي ، علما ان المشروع نص في بعض هذه الجرائم على عقوبة الإعدام في حين
لا ينص نظام روما في مقتضياته على عقوبة الإعدام ، ولعل هذه المقتضيات
تحلل المغرب من التزاماته الدولية المنصوص عليها في الدستور والتي تجعل
الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق احكام الدستور وقوانين
المملكة وهويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها اعلى التشريعات الوطنية .
بما ان مشروع القانون الجنائي
يستهدف حقوق الانسان بالمغرب حسب فئة من الحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني
والإعلاميين لما تضمنه من عبارات فضفاضة مبهمة وغامضة احيانا تفتح باب
التأويل على مصراعيه وتعطي للقاضي سلطة تقديرية انتقائية يمكن ان تفرز
انعكاسات سلبية على المواطن ، دون ان نجادل ان هناك بعض المقتضيات
الإيجابية التي جاءت مطابقة لروح الدستور وملائمة لفصوله وللاتفاقيات
الدولية ، يتعين العمل على طرحه للمزيد من النقاش مع إشراك جميع الفاعلين
من اجل التصويب والتجويد والمزيد من تحصين الحقوق والحريات .
الأستاذة سليمة فراجي محامية – نائبة برلمانية – عضو لجنة العدل والتشريع